15 August, 2008

حتى لا أنسى - 1

اليوم هو سابع يوم أمضيه في الحرية.
حريتي التي استعدتها في الأول من أغسطس بعد ستة عشر شهراً من المعاناة هي بلا منازع أسوأ ستة عشر شهراً مرت من حياتي ولا أكذب حين أدعي أنها قد تكون الأسوأ حتى في ما هو قادم من أيام. لأن هذه التجربة التي خضتها رغماً عني لن أسمح بتكرارها باعتبار نهاية الفترة التي يمكن أن يجبرني فيها أي مخلوق على القيام بشئ لا أود القيام به.

لمن لا يعرفني بعد, فإن هذه الفترة التي أتحدث عنها هي فترة الخدمة الإلزامية بالقوات المسلحة المصرية. فترة هي من أغرب وأسوأ فترات حياتي والتي أرغب في الكتابة عنها لسببين. أولاً: حتى أفرغ بعض من المشاعر المكبوتة بداخلي مما مررت به خلال هذه الفترة , من اكتشافي لذاتي ولمصر وأناسها, مشاعر ظلت تتراكم بداخلي لمدة الستة عشر شهراً ولم أجد منفذاً لتفريغها حتى الآن فقررت كتابتها هنا. وثانياً: أردت أن أدون انطباعاتي وذكرياتي عن هذه الفترة سريعاً, وربما أنا الآن متأخر فكم أود الآن لم كنت بدأت بالكتابة مبكراً حتى لا تضيع مني بعد التفاصيل حيث أن ما سيلي إنما هو انطباعات عامة قد لا يصاحبها بالضرورة الأحداث التي قادتني لهذه الإنطباعات , حتى لا أنساها ولا أسمح لنفسي بنسيانها أو حتى أصل للدرجة التي يحدثني عنها كثير ممن أنهوا فترة الخدمة الإجبارية بالقوات المسلحة حين يقولون أنهم "يفتقدون" هذه الفترة من حياتهم ويعتبرونها واحدة من أجمل ذكرياتهم وهو شئ لن أسمح به لنفسي إطلاقاً مهما حصل.

لا أدعي أن هذه التجربة لم تكن مفيدة رغم قسوتها. لا أدعي أنني لم أخرج من هذه التجربة شخصاً أقوى ولا أدعي أنها لم تغيرني كما أنها بالنسبة لي خصوصاً بعد أن أمضيت معظم حياتي بعيداً عن بلدي كانت كافية للتعرف على مصر كما لم أعرفها من قبل وكما لم يكن ممكناً لي أن أعرفها دون دخولي هذه التجربة الغريبة. لكن, السؤال هنا هو, هل مازلت أحب مصر كما كنت قبل تأديتي للخدمة العسكرية؟

يمكنني القول بأن هذه التجربة سمحت لي برؤية مصر, متمثلة في أناسها, بعيداً عن أي أقنعة أو مظاهر. مكنتني من الغوص مباشرة في عمق مشاكلها وهمومها وصدقوني حينما أقول أنني صدمت من قلة معرفتي السابقة ببلدي.

ولكن أكثر ماصدمني خلال هذه التجربة هو ما أعتبره الآن أكبر مشاكل مصر, الجهل.

أعتقد أن جميع مشاكل مصر يمكن تلخيصها في هذه المشكلة الواحدة, الجهل. ولا أقصد الجهل هنا بمقدار التعليم -الحكومي أو غير الحكومي- الذي يتلقاه الفرد هنا فمن خلال تجربتي الشخصية, لا فارق بين خريج المعهد الفني الصناعي وخريج كلية الهندسية أو حتى من لم يكمل دراسته الثانوية.

إن أول ما أثار صدمتي بالواقع هنا هو انعدام الإرتباط التام بين نوعية التعليم الذي تلقاه الفرد وطموحه للمستقبل أو لنوعية الحياة أو الوظيفة التي يتمناها. فخريج الهندسة الذي يود أن يمتلك نت كافيه وخريج المعهد الصناعي الذي يعمل سائقاً لمشروع أو خريج معهد الخدمة الإجتماعية الذي يعمل جزاراً. هناك انعدام تام للعلاقة بين التعليم والعمل, هذا باعتبار وجود تعليم أساساً. فما لاحظته هنا هو انعدام الإهتمام بالتعليم من أساسه باعتبار أنه واجهة اجتماعية لاغير لا يمكن أن تؤدي بالفرد إلى الحياة الإجتماعية التي يستحقها هذا بالإضافة إلى تدني مستوى التعليم حتى الأساسي.

لشخص مثلي يقضي معظم نهاره سارحاً على الإنترنت وقارئاً للجرائد كان من الصعب علي تخيل كمية المجندين -الذين هم في الواقع عينة للشعبة المصري- الذين لا يعرفون القراءة والكتابة, ومن هنا كانت البداية حيث لا يمكن أساساً التحدث عن نوعية التعليم الجامعي والعالي في وجود هذا التدني الرهيب لمستوى التعليم حتى الأساسي, القراءة والكتابة. كانت هذه نقطة تحول كبيرة بالنسبة لي ولنظرتي لمصر كدولة -على الرغم من جميع مشاكلها- لكنها تسير ببطء نحو التغيير والتحول باعتبار كل التطورات التي حدثت خلال الفترة السابقة لمجيئي إلى هنا والتي كانت دافعاً أساسياً في عودتي, فكيف يمكنك الدفع بالناس إلى التغيير إذا لم يكونوا قادرين على استيعاب الدوافع وراء هذا التغيير المطلوب؟

إن الجهل وحده سبب رئيسي وراء توقف عجلة التطور في مصر, ولا يمكن لأي استثمارات أو مصانع ومناطق حرة من تغيير هذا الواقع الأليم الذي نعيشه. وهذا هو السبب وراء عدم وصول آراء الطبقة المفكرة لعامة الشعب المصري, لآن الشعب المصري لا يقرأ ليس لعدم رغبة منه أو لتكاسله لا سمح الله وإنما لعدم قدرته أساساً على القراءة.

للأسف كنت دائماً أقيم مصر على أساس عائلتي المتواضعة. في الغربة كانت عائلتي هي مصر بالنسبة لي, وكان وضعنا اجتماعياً واقتصادياً هو وضع عامة الشعب المصري باعتبار تقارب حالتنا هذه مع معظم أصدقائنا ومعارفنا وحتى بعض أقاربنا. كنت أتوقع أن كل الأمهات قادرين على القراءة ويتابعون الصحف والبرامج السياسية وغيرها كأمي, وكل الآباء قادرين على الحوار والتفكير والنقد كأبي, وكل المتعلمين -على المستوى الجامعي حتى- قادرين على فهم اللغة الإنجليزية -كضرورة علمية وحياتية للتواصل مع معظم سكان العالم- والتعامل مع التكنولوجيا والإنترنت لهذا لم أصدق أذناي عندما علمت أن معظم رفاقي في كتيبة "المتعلمين" بمركز التدريب لم يكن لديها بريد إلكتروني وربما لم يستخدموا الإنترنت إلا للـ chat , هذا التصور بأن الإنترنت إنما خلقت لمعاكسة البنات ومشاهدة الفيديوهات!

ثلاث وقفات هنا كانت بحق صدمة رهيبة لمنظومة التفكير عندي:
1/ بناءاً على تجربة شخصية لا يعرف معظم الشعب المصري ماهو تحديداً الفرق بين البرق والرعد ناهيك عن أسبابهما التي تراوحت بين "اصطدام السحب ببعض" إلى بعض التفسيرات المضحكة لدى كل من سألت, وقد سألت كل من أعرف بالجيش. وهذه كانت بداية معرفتي الحقيقية لمستوى التعليم المصري حيث أن معلومة كهذه لابد أن أكون قد عرفتها قبل إنهائي الدراسة الإبتدائية فتخيل صدمتي عندما لم يستطع بعض "الجامعيين" الإجابة عن هذا السؤال البسيط.
2/ فيما يبدو, فإن المتعارف عليه بين معظم "القرويين" أن الجسم البشري لا يحتوي على لحم وأن العضلات المكونة للجسم البشري وإنما -طبقاً لمن سألتهم هناك- مكون من "أنسجة" وأنه لاعلاقة هناك بين عضلات الجسم البشري واللحم البقري -كمثال-, الصدمة الحقيقية هنا هي أنني عندما حاولت الإستشهاد ببعض "المتعلمين"و "المتمدنين" من الموجودين هناك استغرقوا في التفكير في هذا السؤال كأنما لم يفكروا به من قبل وكأنما هذا السؤال البديهي أساساً يحتاج إلى تفكير أساساً.
ومع مقدار صدمتي ورغبتي في تغيير هذا الواقع المخيف ولو حتى على المستوى البسيط, أسلوب اتبعته مع كل من تعاملت معهم هناك عن طريق إثارة التساؤلات ومحاولة تنمية الرغبة المعرفية لدى رفاقي هناك,قمت بالإتصال أمامهم بأحد الأطباء من أصدقائي حتى أؤكد لهم هذه المعلومة ولكن حتى بعد أن سمعوا ذلك من طبيب بشري رفضوا التصديق بأن هناك شبه بين تكوين الجسم البشري وتكوين أي كائن حي آخر.
3/ القناعة الغير قابلة للتغيير بأن كل أنثى لم يتمكن أهلها من قتل أنوثتها وتشويه جسمها بعملية الختان سوف تتحول إلى وحش جنسي غير قادر على السيطرة على رغباته مما سوف يقود المجتمع بكامله إلى الإنحلال. لا تعليق.